سورة الأنعام - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


هذا بيان نوع آخر من جهالاتهم وضلالاتهم، والحجر بكسر أوّله وسكون ثانيه في قراءة الجمهور. وقرأ أبان بن عثمان {حجر} بضم الحاء والجيم، وقرأ الحسن وقتادة بفتح الحاء وإسكان الجيم، وقرأ ابن عباس وابن الزبير {حرج} بتقديم الراء على الجيم، وكذا هو في مصحف أُبيّ، وهو من الحرج، يقال فلان يتحرّج، أي يضيق على نفسه الدخول فيما يشتبه عليه. والحجر على اختلاف القراءات فيه هو مصدر بمعنى اسم المفعول، أي محجور، وأصله المنع، فمعنى الآية: هذه أنعام وحرث ممنوعة، يعنون أنها لأصنامهم، لا يطعمها إلا من يشاءون بزعمهم، وهم خدام الأصنام. والقسم الثاني قولهم: {وأنعام حُرّمَتْ ظُهُورُهَا} وهي البحيرة والسائبة والحام. وقيل: إن هذا القسم الثاني مما جعلوه لآلهتهم أيضاً. والقسم الثالث: {أنعام لاَّ يَذْكُرُونَ اسم الله عَلَيْهَا} وهي ما ذبحوا لآلهتهم فإنهم يذبحونها باسم أصنامهم لا باسم الله. وقيل: إن المراد لا يحجون عليها افتراء على الله، أي للافتراء عليه {سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي بافترائهم أو بالذي يفترونه، ويجوز أن يكون افتراء منتصباً على أنه مصدر، أي افتروا افتراء أو حال، أي مفترين، وانتصابه على العلة أظهر، ثم بين الله سبحانه نوعاً آخر من جهالاتهم، فقال: {وَقَالُواْ مَا فِى بُطُونِ هذه الأنعام} يعنون البحائر والسوائب من الأجنة {خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا} أي حلال لهم {وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا} أي على جنس الأزواج، وهنّ النساء فيدخل في ذلك البنات والأخوات ونحوهنّ. وقيل: هو اللبن جعلوه حلالاً للذكور، ومحرّماً على الإناث، والهاء في خالصة للمبالغة في الخلوص كعلامة ونسابة، قاله الكسائي والأخفش.
وقال الفراء: تأنيثها لتأنيث الأنعام. وردّ بأن ما في بطون الأنعام غير الأنعام، وتعقب هذا الردّ بأن ما في بطون الأنعام أنعام، وهي الأجنة، وما عبارة عنها، فيكون تأنيث خالصة باعتبار معنى ما، وتذكير محرّم باعتبار لفظها. وقرأ الأعمش {خالص} قال الكسائي: معنى خالص وخالصة واحد، إلا أن الهاء للمبالغة كما تقدّم عنه. وقرأ قتادة {خالصة} بالنصب على الحال من الضمير في متعلق الظرف الذي هو صلة لما، وخبر المبتدأ محذوف كقولك: الذي في الدار قائماً زيد، هذا قول البصريين.
وقال الفراء: إنه انتصب على القطع. وقرأ ابن عباس {خالصة} بإضافة خالص إلى الضمير على أنه بدل من ما. وقرأ سعيد ابن جبير {خالصاً} {وَإِن يَكُن مَّيْتَةً}. قرئ بالتحتية والفوقية، أي وإن يكن الذي في بطون الأنعام {مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ} أي في الذي في البطون {شُرَكَاء} يأكل منه الذكور والإناث {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} أي بوصفهم على أنه منتصب بنزع الخافض، والمعنى: سيجزيهم بوصفهم الكذب على الله.
وقيل المعنى: سيجزيهم جزاء وصفهم. ثم بين الله سبحانه نوعاً آخر من جهالاتهم فقال: {قَدْ خَسِرَ الذين قَتَلُواْ أولادهم سَفَهاً} أي بناتهم بالوأد الذي كانوا يفعلونه سفهاً، أي لأجل السفه، وهو الطيش والخفة لا لحجة عقلية ولا شرعية، كائناً ذلك منهم {بِغَيْرِ عِلْمٍ} يهتدون به. قوله: {وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ الله} من الأنعام التي سموها بحائر وسوائب {افتراء عَلَى الله} أي للافتراء عليه أو افتروا افتراء عليه {قَدْ ضَلُّواْ} عن طريق الصواب بهذه الأفعال {وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} إلى الحق، ولا هم من أهل الاستعداد لذلك.
وقد أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {وَقَالُواْ هذه أنعام وَحَرْثٌ حِجْرٌ} قال: الحجر ما حرموا من الوصيلة، وتحريم ما حرموا.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله: {وَقَالُواْ هذه أنعام وَحَرْثٌ حِجْرٌ} قال: ما جعلوا لله ولشركائهم.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، عن قتادة {وَحَرْثٌ حِجْرٌ} قال: حرام.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ في الآية قال: يقولون حرام أن يطعم الابن شيئاً {وأنعام حُرّمَتْ ظُهُورُهَا} قال: البحيرة والسائبة والحامي {وأنعام لاَّ يَذْكُرُونَ اسم الله عَلَيْهَا} إذا نحروها.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن أبي وائل في قوله: {وأنعام لاَّ يَذْكُرُونَ اسم الله عَلَيْهَا} قال: لم تكن يحج عليها وهي البحيرة.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس {وَقَالُواْ مَا فِى بُطُونِ هذه الأنعام} الآية قال: اللبن.
وأخرج هؤلاء إلا ابن جرير عن مجاهد في الآية قال: السائبة والبحيرة محرّم على أزواجنا قال: النساء {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} قال: قولهم الكذب في ذلك.
وأخرج أبو الشيخ، وابن مردويه، عن ابن عباس في الآية قال: كانت الشاة إذا ولدت ذكراً ذبحوه، فكان للرجال دون النساء، وإن كانت أنثى تركوها فلم تذبح، وإن كانت ميتة كانوا فيها شركاء.
وأخرج عبد بن حميد، والبخاري، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن ابن عباس قال: إذا سرّك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة من سورة الأنعام {قَدْ خَسِرَ الذين قَتَلُواْ أولادهم} إلى قوله: {وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ}.
وأخرج ابن المنذر، وأبو الشيخ، عن عكرمة في الآية قال: نزلت فيمن كان يئد البنات من مضر وربيعة.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة في الآية قال: هذا صنع أهل الجاهلية كان أحدهم يقتل ابنته مخافة السبي والفاقة، ويغذو كلبه {وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ الله} قال: جعلوه بحيرة وسائبة ووصيلة وحامياً تحكماً من الشيطان في أموالهم.


هذا فيه تذكير لهم ببديع قدرة الله وعظيم صنعه {أَنشَأَ} أي خلق، والجنات: البساتين {معروشات} مرفوعات على الأعمدة {وَغَيْرَ معروشات} غير مرفوعات عليها. وقيل المعروشات ما انبسط على وجه الأرض مما يعرش مثل الكرم والزرع والبطيخ، وغير المعروشات: ما قام على ساق مثل النخل وسائر الأشجار. وقيل المعروشات: ما أنبته الناس وعرشوه، وغير المعروشات: ما نبت في البراري والجبال. قوله: {والنخل والزرع} معطوف على جنات، وخصهما بالذكر مع دخولهما في الجنات لما فيها من الفضيلة {مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ} أي حال كونه مختلفاً أكله في الطعم والجودة والرداءة. قال الزجاج: وهذه مسألة مشكلة في النحو، يعني انتصاب {مختلفاً} على الحال لأنه يقال قد أنشأها ولم يختلف أكلها، فالجواب أن الله سبحانه أنشأها مقدّراً فيها الاختلاف، وقد بين هذا سيبويه بقوله: مررت برجل معه صقر صائداً به غداً، أي مقدّراً للصيد به غداً، كما تقول: لتدخلنّ الدار آكلين شاربين، أي مقدّرين ذلك، وهذه هي الحال المقدرة المشهورة عند النحاة المدوّنة في كتب النحو.
وقال: {مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ} ولم يقل أكلهما، اكتفاء بإعادة الذكر على أحدهما كقوله: {وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] أو الضمير بمنزلة اسم الإشارة، أي أكل ذلك. قوله: {والزيتون والرمان} معطوف على جنات، أي وأنشأ الزيتون والرمان حال كونه متشابهاً وغير متشابه، وقد تقدم الكلام على تفسير هذا {كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ} أي: من ثمر كل واحد منهما، أو من ثمر ذلك {إِذَا أَثْمَرَ} أي إذا حصل فيه الثمر وإن لم يدرك ويبلغ حدّ الحصاد. قوله: {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِه}.
وقد اختلف أهل العلم هل هذه محكمة أو منسوخة أو محمولة على الندب؟ فذهب ابن عمر، وعطاء، ومجاهد وسعيد بن جبير، إلى أن الآية محكمة، وأنه يجب على المالك يوم الحصاد أن يعطي من حضر من المساكين القبضة والضغث ونحوهما.
وذهب ابن عباس، ومحمد بن الحنفية، والحسن، والنخعي، وطاووس، وأبو الشعثاء، وقتادة، والضحاك وابن جريج، أن هذه الآية منسوخة بالزكاة. واختاره ابن جرير، ويؤيده أن هذه الآية مكية، وآية الزكاة مدنية في السنة الثانية بعد الهجرة، وإلى هذا ذهب جمهور أهل العلم من السلف والخلف. وقالت طائفة من العلماء: إن الآية محمولة على الندب لا على الوجوب. قوله: {وَلاَ تُسْرِفُواْ} أي في التصدق، وأصل الإسراف في اللغة: الخطأ. والإسراف في النفقة: التبذير. وقيل: هو خطاب للولاة يقول لهم لا تأخذوا فوق حقكم. وقيل المعنى: لا تأخذوا الشيء بغير حقه وتضعونه في غير مستحقه.
قوله: {وَمِنَ الأنعام حَمُولَةً وَفَرْشًا} معطوف على جنات، أي وأنشأ لكم من الأنعام حمولة وفرشاً، والحمولة ما يحمل عليها، وهو يختص بالإبل فهي فعولة بمعنى فاعلة، والفرش ما يتخذ من الوبر والصوف والشعر، فراشاً يفترشه الناس.
وقيل: الحمولة الإبل، والفرش: الغنم. وقيل الحمولة: كل ما حمل عليه من الإبل والبقر والخيل والبغال والحمير، والفرش: الغنم، وهذا لا يتم إلا على فرض صحة إطلاق اسم الأنعام على جميع هذه المذكورات. وقيل الحمولة: ما تركب، والفرش: ما يؤكل لحمه {كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ} من هذه الأشياء {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان} كما فعل المشركون من تحريم ما لم يحرمه الله، وتحليل ما لم يحلله {إِنَّهُ} أي الشيطان {لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} مظهر للعداوة ومكاشف بها.
وقد أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: {وَهُوَ الذى أَنشَأَ جنات معروشات} قال: المعروشات ما عرش الناس {وَغَيْرَ معروشات} ما خرج في الجبال والبرّية من الثمار.
وأخرج عبد بن حميد، عن قتادة قال: معروشات بالعيدان والقصب وغير معروشات قال: الضاحي.
وأخرج أبو الشيخ، عن ابن عباس {معروشات} قال: الكرم خاصة.
وأخرج ابن المنذر، والنحاس، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِه} قال: «ما سقط من السنبل».
وأخرج أبو عبيد، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، والنحاس، والطبراني، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في سننه، عن ابن عمر في قوله: {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِه} قال: كانوا يعطون من اعتزّ بهم شيئاً سوى الصدقة.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبيهقي عن مجاهد في الآية قال: إذا حصدت فحضرك المساكين فاطرح لهم من السنبل.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وأبو الشيخ، عن ميمون بن مهران ويزيد الأصم قال: كان أهل المدينة إذا صرموا النخل يجيئون بالعذق فيضعونه في المسجد فيجيء السائل، فيضربه بالعصا فيسقط منه، فهو قوله: {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِه}.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن حماد بن أبي سليمان، في الآية قال: كانوا يطعمون منه رطباً.
وأخرج أحمد، وأبو داود في سننه، من حديث جابر بن عبد الله: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أمر من كل حادي عشرة أوسق من التمر بقنو يعلق في المسجد للمساكين. وإسناده جيد.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس، قال: {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِه} نسخها العشر، ونصف العشر.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وأبو داود في ناسخه، وابن المنذر عن السديّ نحوه.
وأخرج النحاس، وأبو الشيخ، والبيهقي، عن سعيد بن جبير نحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن عكرمة نحوه.
وأخرج أبو عبيد، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، عن الضحاك نحوه.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر، عن الشعبي قال: إن في المال حقاً سوى الزكاة.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن أبي العالية قال: ما كانوا يعطون شيئاً سوى الزكاة، ثم إنهم تبادروا وأسرفوا، فأنزل الله: {وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين}.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن جريج قال: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس جذّ نخلاً فقال: لا يأتيني اليوم أحد إلا أطعمته، فأطعم حتى أمسى وليس له تمرة، فأنزل الله: {وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين}.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: لو أنفقت مثل أبي قبيس ذهباً في طاعة الله لم يكن إسرافاً. ولو أنفقت صاعاً في معصية الله كان إسرافاً، وللسلف في هذا مقالات طويلة.
وأخرج الفريابي، وأبو عبيد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، عن ابن مسعود قال: الحمولة ما حمل عليه من الإبل، والفرش صغار الإبل التي لا تحمل.
وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال: الحمولة الكبار من الإبل، والفرش الصغار من الإبل.
وأخرج أبو الشيخ عنه قال: الحمولة ما حمل عليه، والفرش ما أكل منه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عنه أيضاً قال: الحمولة الإبل والخيل والبغال والحمير، وكل شيء يحمل عليه، والفرش الغنم.
وأخرج عبد بن حميد عن أبي العالية قال: الحمولة الإبل والبقر، والفرش الضأن والمعز.


اختلف في انتصاب {ثمانية} على ماذا؟ فقال الكسائي: بفعل مضمر، أي وأنشأ ثمانية أزواج، وقال الأخفش سعيد: هو منصوب على البدل من حمولة وفرشاً؛ وقال الأخفش علي بن سليمان: هو منصوب ب {كلوا} أي كلوا لحم ثمانية أزواج. وقيل: منصوب على أنه بدل من {ما} في {مما رزقكم الله} والزوج خلاف الفرد، يقال زوج أو فرد، كما يقال شفع أو وتر، فقوله: {ثمانية أزواج} يعني ثمانية أفراد، وإنما سمي الفرد زوجاً في هذه الآية لأن كل واحد من الذكر والأنثى زوج بالنسبة إلى الآخر، ويقع لفظ الزوج على الواحد، فيقال هما زوج، وهو زوج، ويقول اشتريت زوجي حمام، أي ذكرا وأنثى. والحاصل أن الواحد إذا كان منفرداً سواء كان ذكراً أو أنثى، قيل له فرد، وإن كان الذكر مع أنثى من جنسه قيل لهما زوج، ولكل واحد على انفراده منهما زوج، ويقال لهما أيضاً زوجان، ومنه قوله تعالى: {فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والأنثى} [القيامة: 39].
قوله: {مِنْ الضأن اثنين} بدل من ثمانية منتصب بناصبه على حسب الخلاف السابق، والضأن ذوات الصوف من الغنم، وهو جمع ضائن، ويقال للأنثى ضائنة، والجمع ضوائن. وقيل: هو جمع لا واحد له. وقيل: في جمعه ضئين كعبد وعبيد. وقرأ طلحة بن مصرف {الضأن} بفتح الهمزة، وقرأ الباقون بسكونها. وقرأ أبان بن عثمان {وَمِنْ الضأن اثنان وَمِنَ المعز اثنان} رفعاً بالابتداء.
قوله: {وَمِنَ المعز اثنين} معطوف على ما قبله مشارك له في حكمه. وقرأ ابن عامر، وأبو عمرو، وابن كثير، وأهل البصرة، بفتح العين {من المعز}. وقرأ الباقون بسكونها. قال النحاس: الأكثر في كلام العرب المعز والضأن بالإسكان، والمعز من الغنم خلاف الضأن، وهي ذوات الأشعار والأذناب القصار، وهو اسم جنس، وواحد المعز ماعز، مثل صحب وصاحب، وركب وراكب، وتجر وتاجر، والأنثى ماعزة. والمراد من هذه الآية: أن الله سبحانه بين حال الأنعام وتفاصيلها إلى الأقسام المذكورة توضيحاً للامتنان بها على عباده، ودفعاً لما كانت الجاهلية تزعمه من تحليل بعضها وتحريم بعضها، تقوّلاً على الله سبحانه وافتراء عليه، والهمزة في {قُلْ ءآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الانثيين} للإنكار. والمراد بالذكرين الكبش والتيس، وبالأنثيين النعجة والعنز، وانتصاب الذكرين بحرّم، والأنثيين معطوف عليه منصوب بناصبه. والمعنى: الإنكار على المشركين في أمر البحيرة وما ذكر معها. وقولهم: {مَا فِى بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا} أي قل لهم إن كان حرّم الذكور فكل ذكر حرام، وإن كان حرّم الإناث فكل أنثى حرام، وإن كان حرّم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين، يعني من الضأن والمعز، فكل مولود حرام، ذكراً كان أو أنثى وكلها مولود.
فيستلزم أن كلها حرام. وقوله: {نبِئُونِى بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صادقين} أي أخبروني بعلم لا بجهل إن كنتم صادقين. والمراد من هذا التبكيت لهم وإلزام الحجة؛ لأنه يعلم أنه لا علم عندهم، وهكذا الكلام في قوله: {وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين} إلى آخره.
قوله: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ وصاكم الله بهذا} أم هي المنقطعة، والإستفهام للإنكار، وهي بمعنى بل والهمزة، أي بل أكنتم شهداء حاضرين مشاهدين إذ وصاكم الله بهذا التحريم؟ والمراد التبكيت وإلزام الحجة كما سلف قبله. قوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا} أي لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذباً فحرّم شيئاً لم يحرّمه الله، ونسب ذلك افتراء عليه كما فعله كبراء المشركين، واللام في {لِيُضِلَّ الناس بِغَيْرِ عِلْمٍ} للعلة، أي لأجل أن يضل الناس بجهل، وهو متعلق ب {افترى} {إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} على العموم. وهؤلاء المذكورون في السياق داخلون في ذلك دخولاً أوّلياً، وينبغي أن ينظر في وجه تقديم المعز والضأن على الإبل والبقر مع كون الإبل والبقر أكثر نفعاً وأكبر أجساماً وأعود فائدة، لا سيما في الحمولة والفرش اللذين وقع الإبدال منهما على ما هو الوجه الأوضح في إعراب ثمانية.
وقد أخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه، من طرق عن ابن عباس قال: الأزواج الثمانية من الإبل والبقر والضأن والمعز. وليت شعري ما فائدة نقل هذا الكلام عن ابن عباس من مثل هؤلاء الأئمة، فإنها لا تتعلق به فائدة، وكون الأزواج الثمانية هي المذكورة، هو هكذا في الآية مصرحاً به تصريحاً لا لبس فيه.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة قال: الذكر والأنثى زوجان.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد في قوله: {ثمانية أزواج} قال: في شأن ما نهى الله عنه من البحيرة والسائبة.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ليث بن أبي سليم قال: الجاموس والبختيّ من الأزواج الثمانية.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، من طرق عن ابن عباس، في قوله: {ثمانية أزواج مّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين} قال: فهذه أربعة {قُلْ ءآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين} يقول: لم أحرّم شيئاً من ذلك {أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين} يعني: هل تشتمل الرحم إلا على ذكر أو أنثى فلم يحرّمون بعضاً ويحلون بعضاً؟ {نَبّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صادقين} يقول كلها حلال، يعني ما تقدّم ذكره مما حرّمه أهل الجاهلية.

6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13